إلياس العماري، الوقاحة، وثورة الياسمين
إن من بين علامات الموت الفكري والسياسي للمجتمعات البشرية، التبعية المفرطة لأحاذية الفكر البشري وغلق الأبواب وكل منافذ التهوئة الشعورية واللاشعورية للإختلاف والنسبية والتعدد، وهي العلامات التي ملأت كل مناحي الحياة في مجتمعنا وبالتالي تحول من مجتمع خصب، منتج، دينامي، إلى مجتمع تابع للتابعين، متذلل، متملق، جامد، لذلك غدا من الطبيعي جدا أن نجد بيننا أناس يدينون بالوقاحة منهجا في السلوك والتفكير يشهرون صلاحهم...في الأيام الأخيرة، وبعد أن لقنت الثورة التونسية الجميلة للطغاة درسا لم يستطيعوا أن يستخلصوا منه العبر اللازمة، زاد الذين يحسنون الإتجار تحت جنح الظلام تموقعا في أماكن أكثر مظلمة وأكثر قرب
من بعض مراكز توجيه "الرعية" لأجل تطوير عمليات الإتجار الليلية المربحة سياسيا، إيديولوجيا، ماديا...وهكذا استغل أحد هؤلاء التجار، وهو رجل الظل في الحزب الملكي الذي قال يوما –على غرار باقي الريفيين- فليسقط الحزب الواحد الذي كان آنذاك حزب الإستقلال، (استغل) الوضعية السوسيونفسانية للريفيين الناتجة عن أحداث الريف في فجر الإستقلال الشكلي، والتي أشعل فتيلها حزب العروبية والتعادلية آنذاك، لمحاولة حشد الرأي العام الريفي لتأييد الأطروحات السياسية الشديدة السذاجة للحزب الملكي، ولترويج خطاب المخزن الجديد عن طريق العديد من المنابر الإعلامية بالريف –خاصة الإلكترونية- التي لا ينقصها إلا أن تضيف إلى الجينيريك "موقع (...) لسان حال حزب البام".وفي نفس الوقت تعتبر هذه المنابر قناة تمرير خطابات شعبوية بعيدة عن الواقع بعد السماء عن الأرض، تشيد –أي خطابات المخزن الجديدة- بمنجزات الدولة في هذا المجال أو ذاك، رغم أن كل تلك الخطابات الرنانة سرعان ما تتكسر على أرض واقع مغربي عنوانه البارز "استمرارية المخزن" فلا الإختيارات السياسية المنتهجة إلى يومنا هذا تنبؤ بالقطيعة مع العهد السابق، والملكية المغربية ظلت مطلقة وتعاظمت قدسيتها ، ومنهجية التلاعب بالقوى السياسية أدى إلى ضمورها وإعادة إنتاج الحزب الأغلبي الذي بدون شك سيتزايد وزنه مع الإنتخابات التشريعية لسنة 2012 وسيدبر أمر الحكومات، إذا استمر الوضع الحالي على ما هو عليه، إلى حدود سنة 2026، تبدوا طريقا سالكة، فهو حزب بحكم ولادته غير الطبيعية وبأطروحاته السياسية الشديدة السذاجة من المؤكد أنه سيضيع على المغرب سنوات طوال من انعدام الرؤئ ونهج اختيارات استراتيجية واضحة المعالم وقادرة على إخراج المغرب من وهدة الأزمات المستعصية التي يحيا في ظلها، والتي هي نفس الأزمات التي كادت أن تقلب كل الموازين في مختلف الإصطدامات التي عرفها المغرب في تاريخه السياسي المعاصر.وهذه المنابر التي تدين بالوقاحة منهجا في السلوك والتفكير والعمل، أصبحت وضعيتها –بعد أن ارتمت في أحضان السلطة- قريبة جدا من وضعية صحف الرصيف التي يمكنها أن تخبرك "ببغلة ولدت في اسناذة"، فقد لاحظ كل زائر يفك بالكاد طلاسم الحروف الأبجدية مؤخرا بعد الثورة التونسية الجميلة التي أسقطت ورقة التوت عن عورات الأنظمة الإستبدادية (لاحظ) الإنحياز الكبير لهذه المنابر إلى الخطاب الرسمي المخزني لترويج خطاب شديد التفاؤل لا يمكنه أن يقنع أحد، على اعتبار أن طبيعة الدولة المخزنية لم تعرف أي تغيير، والوضع السوسيواجتماعي يسير من السيء إلى الأسوأ، مثلا : جيوب الفقر في توسع مستمر، والطبقة الكادحة تتزايد على حساب الطبقة الوسطى –التي هي صمام أمان المجتمعات البشرية- في الوقت الذي يراكم فيه بعض المحظوظين الثروات بعنف لم يسبق له مثيل، وهذا نتيجة استمرارية الدولة المخزنية في نهجها القديم، بل وتطويره، المتمثل في نظام اقتصاد الريع الذي أنتج مفارقات غريبة في النسيج المجتمعي المغربي (الملك سابع أغنى شخصية في العالم، والثروة المالية لخدام المخزن في عهده الجديد تضاعفت في وقت قياسي مقارنة مع أسلافهم، في مفارقة غريبة مع الوضع الإجتماعي والإقتصادي العام الذي يعيشه المغرب. درجة الفقر في مجتمعنا تعرفونها جيدا)أما المشهد السياسي فيتراجع إلى نظام الحزب الواحد الذي أنتج اصطدامات 1958-1959 بين الريف والقصر والحزب الواحد (الذي كان حزب الإستقلال آنذاك)، وهو نفس النظام الذي أفرز ثورة الياسمين في تونس، ليعمل بالتالي –أي الحزب الواحد- على إنتاج نفس ثوابت الحكم في ظل استمرارية سلطوية مع تغييرات شكلية تلائم الظرفية الزمنية والسياسية الحالية، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين حزب "الأصالة والمعاصرة" وكل الأحزاب الإدارية التي سبقته، بل والفرق الجوهري بين "الهمة والعماري" وكل رجال الدولة الأقوياء الذين سبقوه ( ابا احماد، أوفقير ، الدليمي، البصري، العنيكري..) فكل هؤلاء الرجال ظلوا خلف أسوار الحكم، والوحيد الذي خرج منهم إلى الشارع السياسي هو "الهمة" (إلياس يعمل على تهيء الأرضية المناسبة لسير الجرار في الريف، أنظر في مقالاتي السابقة حول الموضوع) وهذا لم يحدث قط في تاريخ المغرب، من يتحدث اليوم عن وزير الداخلية أو عن مدير المخابرات؟ الكل يتحدث عن فؤاد، وهذه حكمة لمن أفتى ولمن نفذ.وهذين الإتجاهين يؤديان إلى مسار واحد وهو اتساع رقعة "السخط" والإحساس بـــ "الحكرة" لشريحة واسعة وهو ما سيردي آجلا أو عاجلا إلى "قيامة" لا تنفع معها كل خطابات المخزن الجديد الشديدة السذاجة والتفاؤل.
No comments:
Post a Comment