وأخيرا، ما ذا تقصد بكلمة (nation) ؟ وأنا أرجع هنا إلى الجدال القديم حول الأمة العربية- كما هو معلوم لديك، هناك تمييز في اللغة العربية بين التعبير المستخدم للدلالة على الجماعات المتشكلة على مستوى الدول القائمة ("الوطن"، في الغالب) والتعبير الذي يدل على الهوية القومية على المستوى العربي (الأمة).
أ.س: هذا السؤال أساسي تماما. وأنا أعتقد أن علينا جميعا، نحن الماركسيين العرب، أن نبذل جهدا بصدد هذه المسألة، فحتى الآن، كانت الرؤية الغالبة للمسألة القومية العربية برجوازية صغيرة، تقود إلى الكوارث التي نعرفها في سوريا وفي العراق، لكن كذلك في حركة التحرر العربية.
للأسف، نحن لم نبلور رؤية بديلة. فالأحزاب الشيوعية العربية تميل إلى التقليل من شأن هذه المشكلة، وعموما فإن الحركات العربية المستقلة، الماركسية أو الماركسية- اللينينية، التي تشكلت في الثورة الفلسطينية أو اليمنية الجنوبية، تبعت إلى هذا الحد أو ذاك هذه الرؤية البرجوازية الصغيرة.
في المغرب، فكرنا في المشكلة الامازيغية، لكننا لا نزال في بداية تفكير حول المسألة القومية، لا يمكن في رأيي أن يخوض فيه شخص واحد، أو حركة واحدة في بلد عربي واحد. يلزم بالضرورة تفكير إجمالي من جانب ماركسيي العالم العربي: إنها مهمة أساسية وملحة.
إننا نعتقد، بخصوص المغرب، أنه تشكل فيه خلال ألوف السنين وطن عربي-أمازيغي، ليس مجرد تجاوز هويتين(أمازيغية وعربية)، بل هو الاندماج، الانصهار الوثيق بين الأساس الامازيغي للوطن المغربي، التي بدأت توضع أسسه قبل أربعة آلاف سنة، والمجلوب العربي. وفي الأخير نضم مجلوب الاسلام، في مكونه الشعبي، لا السنة ولا الشيعة، بل الثقافة العربية، التقدم الثقافي والاقتصادي الذي أدى إلى ازدهار العالم العربي في قرون الاسلام الأولى. ان الانصهار الوثيق العربي- الامازيغي قد تحقق في المغرب، على مستوى السكان والمناطق، وليس على مستوى الدول المركزية.
علاوة على ذلك، يجب الانطلاق من مفهوم الأمة، الذي ليس مفهوما بسيطا، ولم تتم بلورته كفاية إلى الآن. إن مفهوم الأمة المسيطر يأتي من المثال الأوربي، وأنا لا أتكلم حتى على الدولة-الأمة، بل على الإحالة إلى الأمم الناجزة. والحال أن التاريخ لا يجري، في الواقع بهذه الطريقة. وإنني أعتقد شخصيا، أن الأمة هي دينامية: ففي البدء، هنالك الأشكال الأولى لتجاوز البنى القبلية- وهذا أمر لا يعني بالضرورة نفي هذه البنى.
وفي العالم العربي، تختلف هذه السيرورة اختلافا واضحا للغاية عنها في أرويا، حيث الأمم تشكلت على قاعدة تدمير الأشكال ما قبل الرأسمالية: تتشكل أمم عن طريق تحول القبائل، لا عن طريق تدميرها. وحين تبدأ سيرورة التحول هذه، أعتقد أننا ندخل إلى الدينامية القومية.
هذه الدينامية هي على مستويين في العالم العربي: مستوى يمكن تسميته "الوطن" كما في حالة المغرب، ومستوى شامل يسمى "الأمة". والمشكِلة هي أن الحركة القومية العربية نزعت إلى تصور مثالي لمفهوم الأمة، عبر تقديمه كما لو كان وجد بمعناه الحديث على الدوام (منذ الاسلام على الأقل) وعبر إرسائه على أسس مثالية: الدين واللغة. لقد ميزت الحركات ذات الاتجاه المسمى علمانيا كحزب البعث، عامل اللغة من دون تنحية الاسلام، لكن الامور بقيت عند هذه النقطة.
وفي رأيي أنه يجب الانطلاق من امتداد جذور الأمم، وأولا في الانصهار الوثيق بين الجماعات الانسانية وأراضيها –وهذا واقع القبيلة. هذه الانصهارات الوثيقة يجري دمجها عند مستوى أعلى عن طريق خلق روابط تجارية، ثم أنوية مدينية، شبكة مدينة-ريف تخلق شيئا فشيئا أساس الأمة، بشكل لا يتمتع بالضرورة ببنيان سياسي، لكنه مبني اقتصاديا وكذلك ثقافيا، مع دعامة لغوية مشتركة، إلى حد ما. أعتقد أن الدينامية القومية يمكن هكذا على المدى البعيد جدا.
لكن قبل الاسلام، كانت هذه الدينامية القومية، التي سبق أن بدأت تتشكل بوصفها وطنا إذا أمكن القول (وهذا واضح وجلي بالنسبة للوطن المصري الذي وجد بصورة مشخصنة جدا)، كانت لا تزال، إلى حد ما، في وضع الحمل في المغرب كوطن أمازيغي يتطور، يكسب دينامية، حيث لم تكن شبكات المدن-الارياف قد باتت مبنية كفاية، وحيث لم تكن الثقافة، بمعنى الكتابة، قد تطورت كفاية.
إن التطعيم العربي-الإسلامي أعطى هذا التطور دينامية جديدة- وهذا أمر لا جدال فيه- مع تناقضات، وتضادات وصراعات. خُلِق على المدى الطويل في المغرب الكبير اتحاد وثيق على مستوى الشعوب- وليس إطلاقا على مستوى الامبراطوريتين، المغربية أو العثمانية، اللتين كانتا تسعيان للسيطرة عليها- نتج منه، في المغرب الأقصى وفي الجزائر، وطنان عربيان- أمازيغييان.
لكن التطعيم العربي لم يكن محليا: لقد كان مرتبطا بديناميات أخرى كانت تتطور في أمكنة أخرى، في مجمل العالم العربي. إن هذا يربط إذا تكوين هاذين الوطنين العربيين-الامازيغيين بالدينامية القومية العربية. وهذه الأخيرة، التي شهدت ازدهارا كبيرا حتى ما قبل خمسة أو ستة قرون، تقهقرت منذ ذلك الحين، ولم تتمكن بالتالي من أن تتهيكل أكثر. لقد استعادت ازدهارها منذ قرن، في أوساط المناضلين السياسيين والمثقفين، بوصفها برنامج عمل معاد للإمبريالية –وهذا مهم-، وقد تأثرت في الوقت ذاته بالتصورات المثالية المعروفة.
لهذا السبب، علينا نحن المناضلين الثوريين العرب، الماركسيين بوجه خاص، ان نتمكن، على ضوء المآزق التي قاد إليها اليسار المثالي في هذا الميدان، من إعادة بناء إشكالية جديدة. فهنالك دينامية قومية عربية، أكثر مما هنالك أمة عربية ناجزة. وكل الأممين العرب متفقون على الكلام عن حركة قومية عربية، وهي عبارة تتناسب مع الواقع الحالي للمرحلة التاريخية التي نعيشها.
علينا، في آن واحد، أن نقود في اوطاننا المختلفة، حيث توجد اوطان (ليس هذا بديهيا بالنسبة لبعض الدول المصطنعة)، عملا من أجل الثورة، وان نشارك في الوقت ذاته في الحركة القومية العربية كمنظور تاريخي، معاد للإمبريالية ومعاد للصهيونية، وبالطبع معاد للرجعية العربية، من ضمن المنظور التاريخي لبناء أمة عربية، عن طريق انتصار الثورات في مختلف البلدان، وعن طريق التضامن أيضا بين شتى حركاتنا الثورية –وهو تضامن لا بد أن يكون أقوى، وأوثق وأكثر عضوية من التضامن الضروري بين الحركات الثورية في العالم أجمع.
ص.ج: ان التمييز الذي تقيمه بين حركة قومية وأمة لا يبدو لي واضحا جدا. أنت تتكلم عن دينامية قومية موحِدة وتعلن تأييدك لهذا التوحيد، ذي الطابع الدولاني. لكن إذا لم يكن ينبغي –كما قلت في البدء- الخلط بين الأمة والدولة-الأمة، وإذا كانت توجد إرادة خلق إطار دولاني مشترك، وتحقيق التوحيد، فذلك بالضبط لتوحيد كل بشري مرتبط بالوعي المشترك بتشكيل أمة.
أ.س: أعتقد، على كل حال، أن سيرورة التوحيد على مستوى الدول لا يمكن أن تأتي إلا من دول يمكن وصفها، على سبيل الاختصار، بالثورية، متحررة من كل هيمنة امبريالية أو إقطاعية أو رجعية- وفي هذا الصدد نحن متفقون تماما. وحتى إذا كانت هناك تباينات في البنيان الاجتماعي والسياسي بين بلد وآخر، فمذ تنجح الشعوب بإرساء دول ثورية كهذه، يمكن أن تبدأ سيرورة توحيد.
وفي رأيي أن هذا قد يصبح ممكنا، على المدى المتوسط، بالنسبة للمغرب الكبير الذي يمكن عندئذ أن ينخرط في طريق توحيد دولاني. وفي الوقت ذاته، بما أن سيرورة كهذه تستجيب لتطلعات الشعوب، فهي تشكل عامل تعبئة في النضال الثوري. وعندما أقول ان علينا أن نقوم بالثورة في كل بلد من بلداننا، فذلك لا يتم إطلاقا عن طريق إغلاق بلداننا أمام هذا المنظور، لأن ذلك غير صحيح ولأن المنظور المشار إليه هو خميرة لدينامية ثورية – إنه تطلع عميق للشعوب العربية والعربية- الامازيغية، شريطة التحديد الواضح لموقع كل شخصية نوعية وعدم تذويبها في كل أسطوري.
على مستوى مجمل الأمة العربية، إنها سيرورة يمكن أن تكون أطول بكثير مما بالنسبة للمغرب الكبير، إذا أخذنا بالحسبان كل الانقسامات الموجودة في المشرق والصعوبة الكبيرة جدا لتحقيق تحرير كل فلسطين (أي إلغاء الدولة الصهيونية –لا يتعلق الأمر، طبعا، بـ "رمي اليهود في البحر"!). لكن ينبغي أيضا أن نأخذ بالحسبان الأهمية الاستراتيجية العظمى التي يشكلها نفط الخليج للإمبريالية العالمية. سوف تكون المعركة إذا على المدى الطويل: يجب التوصل لتطويق الخليج بدول ثورية –ولا نزال بالطبع بعيدين عن ذلك – قبل التمكن من الضغط بصورة أكثر مباشرة، وليس بحروب كلاسيكية بل بحركات ثورية وبالتضامن الثوري مع القوى المناضلة في هذه المنطقة. يجب القيام أيضا بعمل مواز باتجاه الرأي العام العالمي، لاسيما في البلدان الغربية، من أجل عزل القوى الامبريالية الأكثر عدوانية وإحرابية.
ص.ج: إن هدف التوحيد على المستوى العربي، والدينامية القومية العربية التي تتحدث عنها، يواجهان تحفظات ومعارضات في بعض المناطق الامازيغية، لا سيما في مناطق القبائل في الجزائر. كيف ترى العلاقة بين الرفض الممكن في بعض المناطق لهذا التوجه وإرادة توحيدية محتملة ذات طابع أكثري؟ بمعنى آخر، كيف تنطرح في رأيك مشكلة تقرير المصير بالنسبة للمناطق ذات الخصوصية الاثنية؟ ومن جهة أخرى، هل ترى أن المسألة الامازيغية مسألة "أمازيغية كبرى" أو أن لها بالأحرى خصائص إقليمية تجعلها تتبلور بشكل مختلف من منطقة لأخرى؟
أ.س: أولا، يجب رؤية مشكلة كل المجموعات على هامش العالم العربي، التي تنتمي إليه اليوم سياسيا، لكن من دون أن تكون جزءا من الأمة العربية. نحن متفقون على أن للمناطق الزنجية-الافريقية في جنوب موريتانيا أو السودان، أو بالتأكيد للأمة الكردية، الحق في تقرير المصير، وصولا إلى الانفصال وتشكيل كل منها أمتها الخاصة على أرضها، إذا كان هذا ما تتمناه.
بالمقابل، حين ندرس تاريخ المغرب الاقصى، نرى أن هناك تداخلا، فسيفساء حقيقية عربية- أمازيغية، ومن الصعب جدا، ما خلا في حالات نوعية، الحديث عن تقطيع إقليمي بين منطقة أمازيغية وأخرى عربية، كما يمكن أن نفعل بخصوص الاكراد بالنسبة لباقي مناطق العراق. و هذا لا يعني أنه توجد افكار انفصالية: فهي موجودة بصورة أدق في منطقة الريف حيث هناك تيارات استقلالية.
إن الرد على تيارات كهذه لا يمكن ان يوجد الا في النضال المشترك. و إذا كان للحركة الثورية المغربية برنامج سليم بصدد المسألة العربية-الامازيغية في المغرب الأقصى ، فأنا مقتنع بأنه سيكون في وسعنا كسب هؤلاء المناضلين الداعين للاستقلال إلى رؤية غير انفصالية للمشكلة الريفية. إن صدى اطروحاتنا لدى العديد من المناضلين الريفيين الذين كانوا في طليعة انتفاضات عام 1984 لها صدى معبر.
لكن يجب حل المسألة ديموقراطيا ، و ذلك جوهري. اما في الجزائر ، و حتى إذا كانت المشكلة الامازيغية أقل اتساعا مما في المغرب الأقصى فهي ، أكثر تبلورا في منطقة القبائل لأسباب تاريخية منها الهجرة القبائلية القديمة جدا إلى فرنسا و أسباب أخرى. فلدى القبائليين شعور أعم بكثير بالشخصية و رفض الالتحاق بالعروبة. كما ليس من السهل بالنسبة للمناضلين المغربيين الامازيغيين التسليم بأننا عرب-أمازيغ و أننا جزء لا يتجزأ من دينامية قومية عربية. و هذا مستحيل في كل حال ، إذا جرى الانطلاق من تصور مثالي بوجوازي صغير للامة العربية. و لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا إذا عارضنا هذا التصور بتصور مادي تاريخي و دينامي لبناء الأمة العربية، و للمغرب الأقصى كوطن عربي-أمازيغي.
بهذا المعنى، لا يصح الكلام عن" نزعة امازيغية كبرى؟ إلا انه يصح الكلام عن لغة امازيغية، التمازيغت، بالنسبة لمجمل السكان الذين يتكلمون الامازيغية في كل المغرب الكبير. هنالك في الوقت الراهن عدة لهجات أمازيغية، يمكن ان تتوحد في لغة لثقافة امازيغية مكتوبة. و الاختلاف الوحيد بيني و بين بعض المناضلين أو اللغويين الناطقين بالتمازيغت، هو أنني أفضل ان تكتب هذه اللغة بالأحرف العربية، لأسباب تربوية حصرا و ليس لتكريس أي سيطرة عربية كي يتعلم الأطفال الناطقين بالتمازيغت لغتهم و يتمكنوا من الانتقال من دون صعوبات لدراسة اللغة العربية. يجب ان يكون للمغرب الأقصى ، كما لسويسرا عدة لغات قومية، لكن من دون ان تكون لدى الأطفال صعوبات في الكتابة.و المشكلة الأكثر تعقيدا في الجزائر: فلابد ان تكون حركة جزائرية ثورية وديموقراطية قادرة على تقديم هكذا منظور، كي يستطيع مناضلوها ان يساعدو مناضلي القبائل على التقدم نحو تصور كهذا الذي وصفته- لكن بشرط أساسي: يجب رؤية مشكلة الأمة العريبة في ديناميتها القومية التوحيدية لا في تعارض مع الاوطان الملموسة الموجودة اليوم في الجزائر أو في المغرب.
هذه الدينامية يجب ان لا تؤدي إلى تذويب الشخصيات الوطنية في كل بلد، كالمغرب أو الجزائر أو كالمغرب الكبير بمجمله: لا تعني الأمة العربية المستقبلية التماثل. فسوف يحتفظ المجموع المغاربي بخصوصياته العربية-الامازيغية ضمن الأمة العربية الكبرى. و حتى في تصورنا لمغرب أقصى حر ، وطن عربي –أمازيغي، ثمة مكان للاحكام الذاتية الاقليمية.
ص.ج: أنت ترى إذن حلا للمسألة القبائلية فيما تسميه الحكم الذاتي الاقليمي؟
أ.س: أجل ، حكم ذاتي اقليمي على مستوى الادارة السياسية لمناطق القبائل ومساواة بين اللغة العربية و اللغة التمازيغت، الموضوعة كلغة ثقافة عليا لمجمل أمازغة المغرب الكبير.
نقلا عن مدونة:
No comments:
Post a Comment