رسائل إلى محمد السادس ملك المغرب
كان حملة، بل كانت موجة عارمة شهدها الريف خلال الأيام الماضية. فكل الفقراء أو أغلبية المحتاجين في الريف يكتبون رسائل إلى محمد السادس، وبدوري كتبت الكثير من الرسائل لم أحصي عددها، لكن قد فاقت الخمس مائة رسالة، كتبتها بيدي إلى محمد السادس، ولم أكتبها لشيء يعنيني، بل كتبتها بجكم المهنة التي اكتسبتها مؤخرا: كاتب عمومي. يا سلام. فكل يوم أكسب مهنة جديدة؛ كاتب وحانوتي وقهوجي... سبع صنايع ورزق ضايع. لكن مهنتي الحقيقية هي بطالي أو معطل كما هو متداول في الجمعية.
لنعد إلى رسائل محمد السادس فقد كنت أكتب وأصغي إلى هموم الناس خاصة وأن الكثير منهم وجد راحته في تعاملي معهم كوني أحدثهم بلسانهم، وأتواصل معهم بسهولة عكس ما يقع لهم مع أغلبية الموظفين في الإدارات المغربية في الريف التي تعج بالغرباء عن المنطقة.
والذين يصعب عليهم التواصل باللغة الأمازيغية. وقد فاجأني أحدهم بسؤال حول السردين الذي كنت أشويه في البراكة منذ بداية الصيف، لكن جاء سؤاله اعتباطيا ولم يكن يدري أنني موجز في القانون.
وبدوري كتبت للملك أننا محتاجين لطاكسيات ومساكن وفرص الشغل وحل الكثير من المشاكل وطلب عفو من عقوبة سجنية، وكتبت كذلك مساعدة من أجل العلاج وتعويض عن خدمة عسكرية و طلب مبلغ مالي وطلب تزويج وحج وطريق و ماء وكهرباء ورد المظالم وإنصاف... والكثير الكثير من الأمور التي كتبتها ولا تسع الوقت لتذكرها وذكرها.
وبعد أن انتهيت من كتابة كل هذه الأمور عدت إلى نفسي لكي أقيّم كل ما كتبت، فتساءلت مع ذاتي هل أهل الريف حقا محتاجين إلى طاكسي وبيت ومانظة وتعويض وعفو و... قلت في قرارة نفسي: أجل إن الناس محتاجين وهم في أمس الحاجة لأنهم يموتون جوعا وبردا، خاصة في البوادي والمناطق النائية. لكن طريقة الإفصاح عن الطلب ليست صحيحة. ولا يمكن أن نترك الأمور تجري كما يريدها النظام، لأنه من واجبنا تعويد الناس على الشكاية والاحتجاج والتشبث بالحق، وليس مد اليد لطلب أمور لا أدري كيف أصفها. من حقي أن أشتكي وأبالغ في الشكوى؛ إلى المحكمة والى السلطة والى الملك والى أي جهة أخرى لكي تنصفني من ظلم سلطان جائر. من حقي أن أحتج وأرفع صوتي عاليا فيسمعه الحاضر والغائب إن أحسست أنني مهان في كرامتي ومالي وعرضي ونفسي. لكن أبدا لن أطلب ما ليس حقا لي...
وقد تحولت بعض الحالات إلى ضغينة وحقد بين العائلات، هذه تملك 5 أو 10 رخص نقل وواحدة لا تملك شيء والكل يسكن في نفس الدوار حتى وصلت عدد الرخص في بيت واحد إلى ثماني رخص. كما هو متداول عن عائلة في دوار معين.
وفي الريف لا يمكن للطاكسي أن تحل لنا المشاكل، ولا يمكن لإقالة مسؤول أمني أو إداري أن تحل مشاكل الناس، ولا يمكن لتعويض عن ضرر أو نفس أو ما شابهها أن يضمد كل الجراح، الجراح التي تركها النظام المغربي في الريف. فقطعا لا يمكننا أن ننسى سنوات الرصاص، عندما كان أفقير يضع القنابل في جلابيب الفلاحين ويأمرهم بالانصراف واهما إياهم بالعفو الرحيم عند المقدرة، لكن سرعانما تنفجر القنبلة وتتطاير أشلاء القروي المسكين في السماء، ولا يمكن أن ننسى القصف المكثف الذي تعرضت له المناطق المجاورة للمطار بإمزورن، وقتل الآلاف من الأبرياء بتهمة محاولة اغتيال الملك. ولا زالت عظامهم متناثر في الأراضي هناك. والكثير من الفلاحين من وقت لآخر يجدون عظاما بشرية كلما عقلوا دوابهم لحرث الأرض في فصل الخريف. وأبدًا لا يمكننا نسيان سنوات التعذيب وحرق البيوت والمحاصيل الزراعية واغتصاب النساء وقتل الأطفال والنفي الجماعي الذي تعرض له أهل الريف سواء إلى الجزائر في عهد الحماية الفرنسية في الجزائر. أو بعد ذلك إلى الضيعات والمعامل الأوربية. ولن تنطلي علينا حيلة تلك اللافتات الموزعة هنا وهناك من أجل الترحيب بالجالية المغربية القاطنة في الخارج. لأن المنفي سيبقى منفي إلى أن يغفر الوطن الغفور الرحيم، والوطن لم يغفر بعد. كيف؟؟؟
كل شيء واضح. لازال القائد هو المحيي والمميت في قيادته، والعامل هو الذي يتحكم في كل شيء وأفواج من الغرباء عن المنطقة يحتلون كل المناصب في الريف أينما ذهبت، تجد الدنيا ملآنة بالغرباء في حين أن أبناء الريف تم تهجيرهم إلى الخارج لكي يجلبوا العملة الصعبة. وهذه المفارقة ليست بغريبة عنا فعندما كان أبناء الريف يواجهون المستعمر بالرصاص والنار، كان أبناء الزوايا الفاسية يدرسون في المدارس الفرنسية وينتظرون غنيمة الاستقلال الشكلي الذي منح للمغرب سنة 1956. وما هذا إلا تجلي واضح لفلسفة قائدهم علال الفاسي. عندما كان يوصي الفاسيين خيرا بدراستهم ويأتي إلى الريفيين ليهمس لهم سرا بأنهم هم الرجال وعليهم مقاومة الاستعمار ومجابهته. ريثما يرشد أبناؤه فينعموا بالاستقلال المعوج والمنبطح الذي نعيش اليوم تبعاته وآثاره.
لقد نبعت أغلب الشكايات التي كتبتها من صميم قلوب تتوجع من ويلات ظلم قديم، كمن قتل له قريب منذ زمن، وجاء اليوم يسترجع ذكريات موته ويشكي ويحكي كيف تمت الواقعة وما ذا حدث ولماذا لم ينصف في ذلك الزمن في حين أن الكثير من الناس كانون يشكون ويبكون من شدة الحرقة والإحساس بالظلم الذي أصابهم، ومن خلال تلك المشاهد التي لو جمعناها في صوت وصورة لحصلنا على مسلسل طويل شبيه إلى حد ما بما كان يسمى بالإنصاف والمصالحة. مسلسل طويل يومي تحس بأنه لن ينتهي من كثرة الشكاوي التي تصغي إليها بصفة يومية. وهنا سنطرح السؤال التالي: كيف لتلك الهيأة التي أطلق عليها مؤسسوها "هيأة الإنصاف والمصالحة " أن تنصف كل هؤلاء المظلومين؟؟؟ قطعا لن تنصفهم لأن تلك الهيئات أنشئت خصيصا للنخبة، وما كان يصطلح عليهم بالمعتقلين السياسيين، ولَيتَهُم تشبثوا بمجدهم وحافظوا على كرامتهم، إذ أن السواد الأعظم منهم أغراهم الطمع والجشع وباع ذلك المجد بدراهم بخسة. فمنهم من اشترى سيارة ومنهم من اشترى بيتا أو قطعة أرضية ومنهم من شربها خمرا في حانة بئيسة مثل أيامه تماما. وهنا أستغرب لهؤلاء المشعوذين الذي كذبوا على الشعب. فهل هؤلاء حقا اعتقلوا من أجل قضية شعب. أم من أجل تهمة أخرى، قطعا من يُعتقل من أجل قضية أن يبيع مجده أبدا. فعبد الكريم الخطابي عندما أسر من أجل قضية لم يبع، رغم أنه تعرض لعدة مساومات من قبل الاسبانيين وكذا الفرنسيين، وكذلك فعل عمر المختار وتشي غفارا وفيديل كاسترو... وكل الزعماء الأشاوس. لكن حثالة المجتمع باعت سنوات السجن والعذاب بثمن زهيد ولو قسمنا الثمن على عدد الأيام فلن يتعدى ثمن اليوم 10 دراهم. فهل حرية الإنسان خلال يوم واحد تساوي 10 دراهم؟؟؟ هذا بدون احتساب لحظات العذاب والإهانة...
لنعد إلى الرسائل التي كانت عبارة عن شكايات في أحد مكاتب الولاية، وبعدها تحولت إلى موجة عارمة شهدتها مراكز البريد، حتى أن الطوابع البريدية استنفذت عن آخرها وتم الاستنجاد بالمركز لمد مراكز البريد في الحسيمة بالطوابع. كانت أغلب الشكايات في محلها وهنا من موقعي أجزم أن أغلب الرسائل الموجه إلى الملك تحتاج إلى دراسة، لأنها تحمل الكثير الكثير من الهموم والمآسي والتظلمات. هذا عكس الكلام المتداول في الشارع أن كل الناس يطلبون التاكسي. لكن طبعا نجد أن المطلب الأخير نال حظه وهو نتيجة حتمية لما وقع في عملية منح رخص النقل، فكل شاب عاطل عن العمل يطمح أن تكون له تاكسي يقودها ويسترزق بها. لكن هنا يمكن أن نفرق بين الفئات التي تطلب والفئات التي لم تطلب، فقطعا لم يقم بهذا مثلا طالب جامعي أو موجز أو مثقف أو أي شخص من هذا الصنف، في حين أن الكثير من الشباب العاطل الغير المثقف قام بكتابة هذه الطلبات. وهو معذور على ما فعل خاصة بعد انسداد أبواب أوربا وندرة فرص الشغل في الريف. وهناك الكثير من الغرباء قدموا إلى الريف خصيصا لتحرير طلباتهم وكأنهم جزء من ساكنة الريف ويعيشون في الريف. لكن النكتة الظريفة في موضوع الطلب، أن أحد جيراني هنا جاء عنده شخص وطلب منه أن يكتب له طلب هبة مالية ومسكن، وقد حدد تلك الهبة المالية لدى الكاتب العمومي لكن هذا الأخير جاءه أمر الهبة المالية غريب فطلب من الطالب أن ينقص من سومتها،ا فنهره الطالب في الحين وأخبره بأن الهبة سيهبها الملك ولا أحد غير، وما على الكاتب إلا أن يكتب ويصمت.
وفي خضم كل هذه الأحداث يمكن الوصول إلى نتيجة واضحة ألا وهي غياب المؤسسات الدستورية في المغرب:
-غياب مؤسسة القضاء الحر والمستقل
-غياب وزارة الفلاحة والمياه والغابات والتجهيز والاقتصاد والصحة والتعليم وإدارة السجون والعدل... وهلم جر.
-غياب المؤسسات الحزبية والجمعوية
-غياب الثقة بين المواطنين والدولة
في حين برز الملك إلى الواجهة وبدأ يتقرب أكثر فأكثر إلى الشعب ويحس بمشاكلهم وهمومهم وراح يفك المشاكل والأمور المعقدة على المواطنين، ويقطع بعض الرؤوس اليانعة الفاسدة من جسد النظام، وهنا ترسخت فكرة عامة لدى الشعب أن ما لم يفعله الملك لن يفعله غيره. وهي فكرة خاطئة بطبيعة الحال، لأن الملكية في المغرب هي مؤسسة من بين المؤسسات التي تتشكل منها الدولة. فلا يمكن للملك أن يقوم بكل المهام و أن يحل محل الوزير الأول أو وزير العدل أو الصناعة أو التجهيز ... فيقوم بكل المهام نيابة عنهم. بل يجب أن يعملوا ويخدموا الشعب كما ينص على ذلك الدستور في حين أن المؤسسة الملكية لها مجال عملها كما ينص عليها الدستور أيضا.
وهنا يجب وضح الأحزاب التي تشكل الحكومة على المحك وإرغامها على أداء مهامها وإعطاء الفرصة للشعب من أجل محاسبتها، وهذا لن يتأتى إلا بإصلاح تام وشامل لهياكل الدولة وللقوانين التي تسير بها، أما الرسائل والتاكسيات وشيء من هذا القبيل فلن يحل المشاكل التي يعاني منها المواطن المغربي بصفة عامة. وفي منطقة الريف بصفة خاصة.
والبديل حتى لا نوصف بالغوغائية وممارسة الديماغوجية على المواطنين. البديل واضح جدا، ولا يحتاج إلا ما احتاجه المثلث الاقتصادي من تنمية وإرساء البنية التحية:
المجال الاجتماعي والاقتصادي:
إعادة مدخرات الجالية إلى البنوك المحلية واستثمارها في مشاريع تنموية
شق الطرق والمسالك القروية وربط الريف بالشبكة الطرقية الوطنية.
توسيع المطار والميناء وخلق خطوط بحرية أخرى داخلية وخارجية.
إعادة الاعتبار لسهل النكور وسهل غيس وحماية الأراضي من الانجراف ووقف البناء العشوائي فيهما. وحث الفلاحين على الزراعة والتشجير ومد يد المساعدة لهم. وحماية الفلاحة البورية وتربية الماشية والأبقار والنحل... وإنشاء تعاونيات فلاحية في كل المناطق من الريف.
فتح باب الاستثمارات الصناعية والخدماتية في وجه الأجانب والمواطنين وتشجيعهم وعدم عرقلة مشاريعهم وتقديم كل المساعدات الضرورية لهم قصد المزيد من الإنتاج
تشجيع السياحة وبخاصة تجهيز الشريط البحري الممتد من رأس الماء حتى منطقة الجبهة. وتوفير الأمن والأمان في غابة كتامة لجلب السياحة الشتوية.
خلق فرص الشغل وإسنادها إلى اليد العاملة المحلية وبخاصة حاملي الشواهد الجامعية
بناء المدارس والمستشفيات ومرافق اجتماعية أخرى في المناطق النائية وتوفير جامعة متعددة التخصصات في إقليم الحسيمة ومستشفى كامل التخصصات في كل من تاركيزت وبني بوعياش وامزورن...
بناء مركز صحي لمرضى السرطان وفقر الدم وكل الأمراض المزمن الأخرى. وتخليق المتواجد منها.
توفير التمدرس والعلاج الطبي لكل المواطنين بالمجان.
مراقبة ميدان العقار من المضاربات التي يقوم بها مالكي أموال المخدرات والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن البسيط الذي يريد إقامة مسكن اجتماعي.
هيكلة قطاع الصيد البحري وإنشاء معامل لتصبير السردين لتشغيل اليد العاملة النسائية، وصناعة الثلج وإنشاء تعاونيات لحث البحارة على التعاون والعمل أكثر في المجال.
المجال الحقوقي
الاعتذار الرسمي للنظام المغربي عن أحداث الريف 1959-1958 وما تلتها من أحداث أخرى دموية.
الاعتذار الرسمي للنظام عن القصف الجوي والبري لأراضي الريف بكل أنواع الأسلحة الكيماوية والغازات السامة.
إرغام الدولة الاسبانية على الاعتراف بجرائمها في الريف واعتذارها العلني على قصف الأراضي بالغازات السامة.
رفع الحظر العسكري عن الريف الذي بدأ من سنة 1956 والى الآن إذ أصبح المخازني والدركي والبوليسي ومن في قبيلهم هم المتحكمون في رقاب الناس وليس القانون كما هو متعارف عليه في الدول الديمقراطية.
تخليق الإدارة وتوفير مراكز لتقديم الشكايات وتحليلها حتى يحس المواطن بأن في الوطن قانون يحميه.
الإقالة الفورية لجميع المتورطين في قضايا المخدرات والتعسف السلطوي والفساد الانتخابي من مناصبهم سواء كانون موظفين أو منتخبين، وتقديمهم إلى المحاكم قصد معاقبتهم على ما اقترفوه من جرائم.
الوقف الفوري للترامي على أراضي المواطنين بدعوى نزع الملكية للمصلحة العامة. وكذلك ما تقوم به وزارة التجهيز ومديرياتها المكلفة بالمياه والغابات.
وقف الشطط في استعمال السلطة الذي يمارسه رجال ونساء الشرطة والدرك والجمارك والمخازنية في الإدارات وعلى الطرقات والمعابر الحدودية والأسواق والساحات العمومية.
وقف التعذيب والهجمات المتكررة التي يتعرض لها المعطلون في الشوارع من قبل أجهزة القمع الطبقية، واستعمال القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي في كل من الحسيمة وامزورن وأيت بوعياش وتامسينت... إذ نسجل هنا غياب منطق حقوق الإنسان في التعامل مع حق الاحتجاج والحريات العامة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المغرب دولة بوليسية ولم تتحرر بعد من عهد القمع والاستبداد والرصاص والسجون السرية.
وقف التعذيب والإرهاب النفسي في مراكز الشرطة والكوميساريات ومراكز الدرك.
عدم أخذ كل الوشايات التي تتلقاها السلطات من أعوانها ومخبريها والمتعاونين معها محمل الجد إذ أن المبدأ القانوني يقول لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص والمتهم برئي حتى تثبت إدانته. والمخبر هنا لا يثبت الإدانة بقدر ما يؤسس لوشايته على حسابات شخصية أو أحقاد ماضية.
رد الاعتبار لرموز المقاومة الوطنية وحفظ التراث ومنح الترخيص للجمعيات التي تعمل في المجال، وصيانة المآثر التاريخية وحفظها من الاندثار والأعمال العبثية.
إن رد الاعتبار المواطن الريفي تأتي عبر تلك المطالب السالفة الذكر، أما غيرها فلا تغني ولا تسمن من جوع. والشيء الوحيد الذي سيحمي حقوق وحريات المواطن هو بناء مؤسسات دستورية حرة ونزيهة أساسها القانون، وتقويم اعوجاج الدولة والحرص على البناء الصحيح لهياكلها. والضرب بشدة على أيدي العابثين والفاسدين والظالمين...
بقلم المتقي أشهبار
كاتب مغربي
No comments:
Post a Comment